ثقافة في 3 أفلام مشاركة في مهرجان كان: الفساد وقسوة المجتمع عبر القارات
بقلم الناقد طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان
الحدث طبعا بالنسبة إلينا هو عرض فلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية « على كف عفريت » في إطار قسم « نظرة ما »، وهو القسم الثاني في البرمجة الرسمية للمهرجان إلى جانب « المسابقة الرسمية ».
قبل أن نرجع إليه في مقال لاحق لا بد أولا الإشارة إلى القبول الطيب الذي لقيه الفلم على الأقل في العرض المخصص للصحافة وكذلك في المقالات الأولى التي نشرت هنا وهناك. فكلّها أكدت على جرأة المخرجة في معالجتها لقضية المرأة ومواجهتها للفساد، وبدرجة أقل إلى إختيارها الفني في تطرقها للموضوع. وفعلا كانت ميزة الشريط الاولى هي قوة فضح الظلم الذي تتعرض له المرأة من المجتمع ومن الساهرين عليه.
كوثر بن هنية اختصت أو كادت في النوع الوثائقي ولكن مارستْه في أفلامها السابقة بطريقة بعيدة على المباشرية الفجة وان كانت مواضيعها مرطبتة دائما بقضايا مجتمعية حيّة، فمزجت في « شلاط تونس » الوثائقي بالروائي مزجا لافتا كما ارتقى أسلوبها في « زينت تكره الثلج » إلى درجة عالية من الطرافة.
ولكنها ارتأت أن تنتهج في هذا الفلم الروائي والمستوحى من الواقع طريقة حادّة وجافة مبنية على اللقطة المشهد التي شكلت الوحدة الأساسية للعمل، فكان الفلم مقسما إلى أجزاء يحمل كل جزء رقمه في الترتيب وكأنها تقارير ملف الإدانة.
في نفس القسم جاء « الرجل النزيه » لمحمد راسولوف ليؤكد ما حصل لنا من انطباع حول أهمية المواضيع السياسية والإجتماعية في هذه الدورة. يتطرق الفلم أيضا إلى مسألة الفساد في ايران. عرف راسولوف بمناهضته للنظام وقد حوكم بخمس سنوات سجنا تحت نظام أحمدي نجاد هو وجعفر باناهي. وها هو الآن في كان من جديد وقد تم تعليق الحكم ورفع قرار المنع.

ينخرط راسولوف تماما في مدرسة السينما الإيرانية. رضا مناضل سابق يعيش الآن بعيدا عن طهران في شمال ايران، اشترى قطعة أرض فلاحية واستقر فيها هو ووزوجته التي تدير معهد القرية. يتعرض إلى مضايقات عائلة نافذة وإدارة فاسدة دفعت به إلى صراع متواصل مع الجميع.
لا يعتمد راسولوف أسلوب السينما المناضلة الكلاسيكية بل طريقة أكثر تفرّدا وتميزا بعيدة عن الخطاب الأيديولوجي المجرد، يتحرك الفلم حسب منطق مفارقي: كلما حاول رضا مواجهة أعدائه فشل في تحقيق مبتغاه وتعقدت وضعيته إلى حد تأزم علاقته بزوجته فاضطر إلى التسليم بعدم نجاعة تشبثه بأفكاره، وذهب به الأمر إلى اللجوء إلى نفس الأساليب التي ما انفك يقاومها. ولكن لم يبرز هذا المنطق في شكل معلن ولكن من خلال اختيارات سينمائية. صمتٌ رهيب يحيط برضا، فهو قليل الكلام لا يبوح بأفكاره.
اختار المخرج عزل الشخصية عن سياقها فبدا اصراره على المقاومة غير خاضع لفكرة سابقة، لم يكن نتيجة دافع مباشر بل كان نابعا من أعماق مجهولة، يمكن للمتفرج أن يفسرها في اتجاه معين أو في اتجاه معاكس مما يجعل تراجع رضا ممكنا. رضا يسكن في إطار (كادر سينمائي) خاص به وكلما وضعه المخرج مع شخصية أخرى في نفس الإطار رسم خطوطا فاصلة بينهما.
قيمة فلم راسولوف، مع ما فيه من ادانة واضحة للنظام السياسي والإجتماعي، تكمن في فتح مجالات دلالية أخرى تعتمد السينما والسينما وحدها.
في هذا المجال يمكن ذكر فلم « المرور عبر المستقبل » للمخرج الصيني لي رويجون وهو أيضا يتناول موضوعا إجتماعيا في علاقة مع تحديات العصرنة الرأسمالية وما يمكن أن تؤدّي إليه هذه العصرنة من تحطيم للتوازنات الإجتماعية والإضرار بالقيم الإنسانية.
ياوتان شابّة تعيش مع عائلتها في المدينة ولكن ظروف العمل القاسية أجبرت العائلة على الرجوع بعد سنوات عديدة إلى الرّيف. لم يلق الأب ما كان ينتظره من أهله بحكم التغيرات السوسيولوجية، ولم يتحصل حتى على نصيبه من الإرث. فبقيت ياوتان في المدينة تسعى إلى ايجاد عمل لاشتراء شقة للعائلة ولكنها لم تتغلب على قسوة المجتمع وتسلط أصحاب رأس المال العنيف بالرغم من قوة شخصيتها ومحاولاتها المتكررة في تجاوز الصعاب. ذهب بها الأمر إلى حد التضحية بسلامتها البدنية.
الإدانة واضحة هنا أيضا ولكن هنا أيضا اختار المخرج أسلوبا متميزا في الكتابة السينمائية للتعبير على خطورة الموضوع مبتعدا عن الخطاب الأيديولوجي المباشر. يصعب التعبير بدقة عن طرافة المنهج ولكن يمكن الإقرار بوضوح أن طريقة التصوير ومتابعة الاحداث بالصورة والصوت مكّنت المتفرج من الإلمام بحيثيات القصّة.
فالسياق الإجتماعي لم يكن سابقا ولا محددا في تصرف الشخصيات بل اختار المخرج الإلتصاق بياوتان والإقتراب منها بحيث كان العالم الخارجي محيطا بها لا خارجا عنها لأن ادراكه لا يتم إلا من خلال شخصية ياوتان التي توفّق المخرج في تصويرها لا كمجرد ضحية ولكن في رصد كل جوانبها الإنسانية ومدى وقع تردي الأوضاع الإجتماعية عليها في كل لحظة من لحظات مسارها.